ليبيا وتركيا- شراكة إستراتيجية في مواجهة التحديات الراهنة

المؤلف: سمير العركي09.02.2025
ليبيا وتركيا- شراكة إستراتيجية في مواجهة التحديات الراهنة

إن علاقة تركيا بليبيا لا تقتصر على الروابط التاريخية الوثيقة، والتمازج الثقافي والحضاري، والتداخل الديموغرافي العميق بين البلدين فحسب، بل تتجاوز ذلك كله إلى اعتبارات جيوسياسية بالغة الأهمية، تتعلق بالمصالح الاستراتيجية المشتركة، وتعزيز قدرة البلدين على الاستفادة القصوى من الموارد والثروات الكامنة في المنطقة المحيطة بهما.

فليبيا وسوريا تتشابهان في الأهمية الاستثنائية لتركيا، فكما تعتبر سوريا امتدادًا استراتيجيًا حيويًا للأناضول، وتؤثر بشكل مباشر في أمن واستقرار تركيا، فإن ليبيا تمثل أيضًا عمقًا استراتيجيًا بحريًا لا يقل أهمية عن سوريا، وهو ما سنتناوله بالتفصيل لاحقًا.

تشهد ليبيا في الوقت الراهن اضطرابات أمنية متزايدة منذ مساء يوم الاثنين الموافق 12 مايو/أيار الجاري، وذلك على خلفية الاغتيال المأساوي لرئيس جهاز دعم الاستقرار التابع للمجلس الرئاسي، عبد الغني الككلي، المعروف بـ "غنيوة"، في العاصمة طرابلس. وقد تزامن هذا الحادث مع اشتباكات عنيفة بين قوات تابعة لجهاز دعم الاستقرار وقوات أخرى من "اللواء 444 قتال" التابع لوزارة الدفاع.

وعلى الرغم من إعراب رئيس الوزراء، عبد الحميد الدبيبة، في صباح اليوم التالي، عن امتنانه وتقديره لقوات الجيش والشرطة على "الإنجاز الكبير الذي حققوه في بسط الأمن وفرض سلطة الدولة في العاصمة"، فإن الاشتباكات سرعان ما تجددت بصورة أسرع، مما استدعى تدخل وزارة الدفاع بحكومة الوحدة في طرابلس، التي أعلنت وقفًا فوريًا لإطلاق النار، ونشر قوات نظامية محايدة في مناطق التماس لضمان الالتزام بالهدنة.

أمام هذا الوضع الأمني الهش والمتدهور، بادرت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا إلى تشكيل "لجنة للهدنة" بالتنسيق والتعاون مع المجلس الرئاسي الليبي، وذلك بهدف الإشراف على وقف إطلاق النار الذي جرى التوصل إليه، وضمان استمراره وتماسكه.

ولم يقتصر الاضطراب على الأوضاع الأمنية المتردية، بل امتد ليشمل الفضاء السياسي المتأزم، حيث سعى البرلمان المتمركز في الشرق، برئاسة عقيلة صالح، إلى توسيع نفوذه باتجاه الغرب، حيث تتواجد حكومة الدبيبة المعترف بها دوليًا، وذلك عبر الإعلان عن البدء في دراسة ملفات المرشحين لتولي منصب رئيس الحكومة، بالتعاون مع المجلس الأعلى للدولة الموجود في طرابلس، برئاسة خالد المشري.

وفي سياق متصل، شهدت العاصمة الليبية، طرابلس، مظاهرات شعبية واسعة النطاق، تطالب برحيل حكومة الدبيبة، فيما أشارت تقارير صحفية موثوقة إلى تقديم عدد من الوزراء ونواب الوزراء استقالاتهم من مناصبهم.

هذا الاضطراب السياسي والأمني فتح الباب واسعًا أمام جميع السيناريوهات المحتملة، التي قد تعصف ببلد يعاني أصلًا من انقسام جهوي حاد وتجاذبات سياسية عميقة، وتتنازعه حكومتان متنافستان، إحداهما في الغرب بقيادة الدبيبة وتحظى باعتراف المجتمع الدولي، والأخرى في الشرق برئاسة أسامة حماد، وتحظى بدعم القوات المسلحة بقيادة خليفة حفتر وأبنائه.

نظرًا لانخراط تركيا العميق في الأزمة الليبية منذ سنوات عديدة، من خلال اتفاقيات التعاون الثنائي، والوجود العسكري الملحوظ على الأراضي الليبية، يثور التساؤل حول الدور الذي يمكن أن تقوم به أنقرة لاحتواء هذه الأزمة المتفاقمة، والبدائل المطروحة لديها للحيلولة دون انزلاق البلاد إلى هوة الفوضى وعدم الاستقرار، الأمر الذي قد يهدد أمنها ويؤثر سلبًا على المصالح الاستراتيجية التركية في المنطقة.

الأهمية الإستراتيجية لليبيا

لا شك أن المذكرة التي أبرمتها تركيا مع حكومة رئيس الوزراء السابق، فايز السراج، والمعروفة باسم "مذكرة التفاهم بشأن ترسيم صلاحيات المساحات البحرية"، قد لعبت دورًا حاسمًا ومحوريًا في إعادة تموضع تركيا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، بعد عقود طويلة من العزلة الإجبارية، ومحاولات حرمانها من الاستفادة من الثروات الهائلة الموجودة في شرق البحر الأبيض المتوسط.

ففي عام 2004، قام الأستاذان بجامعة إشبيلية الإسبانية، خوان لويس سواريز دي فيفيرو، وخوان كارلوس رودريغز ماتيوس، بنشر دراسة أكاديمية قيمة تحت عنوان: "أوروبا البحرية وتوسيع عضوية الاتحاد: آفاق جيوسياسية"، تضمنت خريطة تفصيلية للوضع البحري للدول التي كانت تسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في ذلك الوقت، مثل رومانيا وبلغاريا وكرواتيا وتركيا.

تضمنت تلك الدراسة خريطة أصبحت تعرف فيما بعد باسم "خريطة إشبيلية"، والتي منحت تركيا منطقة بحرية ضيقة ومحدودة، محصورة في سواحل أنطاليا، على الرغم من كونها صاحبة أطول شريط ساحلي في شرق البحر الأبيض المتوسط. وفي المقابل، منحت الخريطة كل جزيرة يونانية منطقة اقتصادية خالصة بطول 370 كيلومترًا، بما في ذلك جزيرة كاستيلوريزو (ميس) التي تبعد عن السواحل التركية مسافة كيلومترين فقط، بينما تبعد عن السواحل اليونانية حوالي 580 كيلومترًا!

هنا تبرز أهمية اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، التي منحت أنقرة سندًا قانونيًا قويًا يمكنها من المطالبة بحقوقها المشروعة، خاصة في ثروات شرق المتوسط، وذلك بعد حصولها على منطقة اقتصادية خالصة تقدر بآلاف الكيلومترات وفقًا للاتفاقية المبرمة.

وفي دراسة وافية نشرتها دائرة الاتصالات برئاسة الجمهورية التركية عام 2020، تحت عنوان: "خطوة إستراتيجية في معادلة شرقي المتوسط"، أكدت الدراسة أن الاتفاقية المذكورة تعد الأولى من نوعها التي توقعها تركيا مع دولة تطل على البحر المتوسط بخلاف قبرص التركية، فيما يتعلق بقضايا الجرف القاري والمناطق الاقتصادية الخالصة.

كما أكدت الدراسة أن الاتفاقية ساهمت في الحفاظ على حقوق كل من تركيا وليبيا في البحر المتوسط، ومكنت أنقرة من إرسال رسالة واضحة مفادها أنها "لن تسمح بفرض الأمر الواقع في المنطقة".

بالنظر إلى كل هذه الاعتبارات، لم يكن من المتوقع أن تكتفي أنقرة بدور المراقب والمتابع للأحداث، خاصة في ظل احتفاظها بقوات عسكرية لها في المنطقة الغربية، وفقًا لمذكرة التعاون الأمني والعسكري الموقعة عام 2019.

البدائل التركية لحل الأزمة

على الرغم من أن تركيا تعتبر حليفًا رسميًا للحكومة الليبية في الغرب، وقدمت لها الدعم العسكري في التصدي لعدوان حفتر والدول الداعمة له على العاصمة طرابلس، في يونيو/ حزيران 2020، بعد أكثر من عام على بدء الهجوم، فإن أنقرة عملت في السنوات اللاحقة على إقامة قنوات اتصال مع القائد العسكري، خليفة حفتر في الشرق، وهو ما أفضى إلى زيارة نجله، صدام حفتر، للعاصمة التركية أنقرة في أبريل/ نيسان الماضي، حيث استقبله وزير الدفاع التركي، يشار غولار، وقائد القوات البرية، سلجوق بيرقدار أوغلو.

وفي سياق متصل، قام نجله الثاني، بلقاسم خليفة حفتر، مدير صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا، بتوقيع عقود مع شركات تركية رائدة لتنفيذ مشاريع حيوية في مجال البنية التحتية والإنشاءات.

علاوة على ذلك، شهدت العلاقات التركية المصرية تطورًا ملحوظًا وإيجابيًا، بعد أن وصلت إلى حد المواجهة العسكرية المباشرة في ليبيا عام 2020.

بناءً على ما تقدم، فإنه من الطبيعي أن تختلف الإستراتيجية التركية المتبعة عما كانت عليه قبل حوالي خمس سنوات، حيث تتجه سياسة أنقرة في الوقت الراهن إلى اتباع سياسة "إدارة الخلافات" مع الدول الصديقة، بما لا يسمح بتدهور العلاقات الثنائية، ويحافظ على المصالح المشتركة.

وفي حوار صحفي لوزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، نشرته مجلة "جون أفريك" المرموقة منتصف مايو/ أيار الجاري، كشف فيدان عن الإستراتيجية التي تتبناها بلاده لمواجهة أزمة الانقسام في ليبيا، وكيفية إعادة اللحمة بين مكونات الشعب الليبي، وذلك على النحو التالي:

  • أولًا: التوصل إلى اتفاق شامل بشأن تشكيل حكومة تحظى بقبول جميع الأطراف، وتكون مهمتها الأساسية التمهيد لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، معربًا عن رفضه القاطع لإجراء الانتخابات دون "نضج العملية السياسية".

واعتبر فيدان أن إجراء الانتخابات في ظل الأجواء السياسية والأمنية الحالية قد يتحول إلى "منافسة حادة بين المعسكرين الشرقي والغربي"، أي أنها ستتحول إلى تنافس جهوي وإقليمي وليس بين مكونات شعب واحد، مؤكدًا أن أنقرة تسعى جاهدة لتهيئة الظروف الملائمة لإنجاح هذا الخيار.

  • ثانيًا: اعتماد أسلوب الحوار البناء مع جميع القوى المؤثرة في المشهد الليبي، وذلك بهدف الحيلولة دون تجدد المواجهات العسكرية مرة أخرى، حيث قال فيدان: "نتحدث بانتظام مع روسيا وشركائنا الليبيين في الشرق. لقد كانت أولويتنا القصوى على مدى السنوات الخمس الماضية هي تجنب المواجهة العسكرية بين الشرق والغرب".

والملاحظة الجديرة بالاهتمام هنا هي وصفه للقوى السياسية والعسكرية الموجودة في الشرق الليبي بـ "الشركاء"، مما يعني أن تركيا قد نجحت في تجسير العلاقة بينها وبين هذه القوى، بعد سنوات قليلة من توقف المواجهات العسكرية، بل وأعادت تعريف القوى الفاعلة في الشرق.

مما يعني أن تموضعها الحالي بين الغرب والشرق، يتيح لها القيام بدور فعال في الوساطة بين الجانبين، بهدف إنهاء الانقسام السياسي والجغرافي، وتوحيد الجيش والأجهزة الأمنية، وهذا يعتبر تقدمًا هامًا يُحسب للدبلوماسية التركية.

  • ثالثًا: التحذير من المزيد من العسكرة، وتحديدًا القوات الأجنبية، وفي إشارة واضحة إلى القوات الروسية، التي لوحظ قيامها بنقل جزء من آلياتها وعتادها العسكري من سوريا إلى ليبيا، عقب سقوط نظام الأسد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.

فالإستراتيجية التركية بشكل عام تهدف إلى إفراغ المنطقة من القوات الأجنبية، حيث تبذل جهودًا مضنية لإقناع واشنطن بسحب قواتها من سوريا، وسارعت إلى تشكيل آلية أمنية مشتركة مع الأردن وسوريا، لسد الفراغ الذي ستتركه القوات الأميركية بعد رحيلها، وذلك بهدف مواجهة تنظيم الدولة ومنع تمدده مجددًا.

التعاون الإقليمي

استنادًا إلى التجربة السورية، قد تسعى تركيا في الملف الليبي، إلى تخفيف أو إنهاء الوجود العسكري الروسي، وإعادة توحيد البلاد عبر آلية إقليمية تراعي المصالح الإستراتيجية لدول الجوار الليبي.

وفي اعتقادي، فإن تركيا في هذه المرحلة تحتاج إلى التنسيق الوثيق مع مصر، من خلال تأسيس حوار إستراتيجي معمق بشأن إنهاء الأزمة الليبية.

فالعلاقات بين أنقرة والقاهرة تشهد نموًا مطردًا وتطورًا ملحوظًا، بحيث تجاوزت النطاق الاقتصادي، إلى نطاقات أخرى إستراتيجية وعسكرية، حيث قام رئيس أركان الجيش المصري، أحمد فتحي خليفة، بزيارة رسمية إلى تركيا، والتقى بنظيره التركي، متين غوراك، خلال الشهر الجاري، وعقد الطرفان الاجتماع الأول للحوار العسكري رفيع المستوى بين البلدين، والمخطط تنظيمه سنويًا على مستوى رئاسة أركان الدولتين.

مثل هذه الاجتماعات الدورية يمكن تكرارها على مستوى وزارتي الخارجية، وجهازي الاستخبارات في البلدين، للوصول إلى رؤى مشتركة لحل الأزمات الإقليمية الملتهبة في ليبيا، وغزة، والسودان، وغيرها.

الخلاصة

إن الهدوء النسبي الذي تشهده ليبيا هذه الأيام، هو هدوء هشّ، قد ينهار في أي لحظة، سواء في العاصمة طرابلس، أو بين الشرق والغرب، ومن الأهمية بمكان أن تتخذ تركيا -التي تتمتع بتموضع متميز داخل ليبيا- خطوات استباقية لنزع فتيل الأزمة، واتخاذ خطوات جادة وملموسة، مع الشركاء المحليين ودول الجوار، من أجل إعادة الوحدة للدولة الممزقة، ودمج المؤسسات المنقسمة، والحيلولة دون تجدد القتال والاقتتال الداخلي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة